مهارة كتابة إنشاء أدبي حول: نص شعري
المرجع: الممتاز في اللغة العربية، ص:51، (للسنة الثانية من سلك الباكلوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية)
نص الموضوع:
طبق ما استفدته، في أنشطة الاكتساب، في كتابة موضوع إنشاء أدبي حول النص الشعري: "أغنية الليل" لجبران خليل جبران، مسترشدا في إنجازك للموضوع بالخطوات والعناصر التالية:- المستوى البلاغي والتركيبي: أ. البلاغي: الصور الفنية، مكوناتها، علاقاتها، أبعادها الإيحائية، وظائفها...
ب. النحوي: الجمل، الأفعال، الضمائر، الأساليب اللغوية...
- المستوى الصوتي الإيقاعي: أ. الخارجي: الوزن العروضي، القافية، الروي...
ب. الداخلي: التنغيم، التكرار والتوازي، التجانسات الصوتية...
- الخاتمة: تركيب مجمل للخلاصات.
مقدمة:
استثار الشاعر العربي الحديث سؤال الذات بغية الإفصاح عن حركة شعرية رائدة، تنزاح عما دأبت عليه حركة إحياء النموذج الشعري بقيادة محمود سامي البارودي، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم... فهاته التي رهنت الشعر بتقاليد شعرية عريقة، تغافلت حق الشاعر في التعبير عن كوامنه بحرية، وإبداع واقعه بطلاقة خيالية.
لذا لم ير الشاعر العربي في بداية القرن العشرين بدا من إطلاق سؤال الذات، أو بالأحرى إطلاق العنان لذاته، ليجعل من الأدب تعبيرا طليقا وخلاقا، عما تستشعره دواخله، وتعيشه وتتصوره في واقعها المعيش.
ولعل هذا الشاعر يجد نظيره في الشاعر جبران خليل جبران، الذي يعتبر أحد الرواد الذين أثاروا سؤال الذات وعملوا على تفعيله في التجارب الشعرية لمجايليه من شعراء المهجر وغيرهم.فهو شاعر لبناني أمضى معظم حياته في أمريكا حيث أسس في العقد الثاني من القرن العشرين مع رفقاء الهجرة (نسيب عريضة، ميخائيل نعيمة، رشيد أيوب، عبد المسيح حداد، ندرة حداد...)، الرابطة القلمية التي حملت لواء التجديد.
وتعتبر قصيدة جبران خليل جبران: "أغنية الليل" ، شعرا دالا على النهج الشعري الذي نهجه في سياق استثارته هذا السؤال،فهي قصيدة ذات عنوان يقوم على علاقة إسنادية متنافرة، ذلك أن الشاعر أسند ما هو إنساني إلى ما هو طبيعي، مما يدل على التشخيص، الذي لاشك أن القصيدة ستأتي مفعمة به أو بصوره الشعرية المترتبة عنه.
إن هاته القصيدة تضمنها كتاب جبران المعنون بالطرائف والبدائع، الصادر عن منشورات المكتبة العلمية الجديدة، ببيروت، وهي تبدو لأول وهلة منتظمة وفق نظام الشطرين، ولعل ما يلفت النظر إزاء هذا النظام كون شطر صدرها أكبر من شطر عجزها الذي يختم بقواف مختلفة، فهذا مؤشر يؤشر على أن الشاعر سينزاح في قصيدته عن النمذجة الشعرية التقليدية، وسيختط لها الشكل التعبيري المتناغم مع تجربته الذاتية الطليقة.
ونحن نعتزم تحليل المستويين: البلاغي والتركيبي من جهة، والصوتي والإيقاعي من جهة أخرى، تحفزنا تلك المؤشرات على استثارة الإشكالية التالية: إلى أي مدى ينزاح الشاعر بهذين المستويين عن النمذجة الشعرية التقليدية؟ وما مظاهر هذا الانزياح؟
العرض:
أول ما يدلنا عليه المستوى البلاغي والتركيبي لقصيدة أغنية الليل كون الصور الشعرية التي تضمنتها، أتت عبارة عن تعبيرات إيحائية عن الحالة النفسية والوجدانية للذات الشاعرة، التي تنحو منحى رومانسيا، إذ تمتزج بالطبيعة، وتبث الحياة فيها، وتسقط عليها ما تستشعره، وتعيشه بين أحضانها من حب.
إنها صور تقوم أساسا على خاصية التشخيص، الذي يضفي صفات إنسانية على المحسوس، فيعطيه أبعادا استعارية، تنزاح بها الكلمات عن وظائفها المعجمية المتداولة، يقول: (فالنجوم تكتم الأسرار، ويردف في مكان آخر قائلا: وضباب الليل يحجب الأسرار...).
فالشاعر شبه النجوم من جهة والضباب من جهة أخرى بإنسان، فحذف المشبه به وأبقى المشبه، مما جعلنا إزاء صور تقوم على علاقة المجاورة، وبالتالي على الشكل البلاغي الاستعاري المكني، وهو شكل تدلنا عليه أبيات عدة: (سكن الليل/ وفي ثوب السكون/ تختبي الأحلام/ سعى البدر...).
ولهل الناظر في الصور الشعرية التي تحلت بها القصيدة الشعرية، التي نحن بصددها يجدها تجرى على علاقات غير متجانسة بين ألفاظها التي ينتمي بعضها إلى العالم الحسي، وبعضها الآخر إلى العالم التجريدي، بذا نكون ونحن نسترسل في قراءتها أمام ثلاثة أنواع من الصور الشعرية، فمنها الصورة الحسية التي قوامها ألفاظ ترجع إلى المحسوس: (وفي ثوب السكون)، ومنها الصورة التجريدية، التي عمدتها ألفاظ ترجع إلى المجرد: (والهوى يثنيه (الهـاء تعود على مليك الجن))، كما أن منها الصورة التي تزاوج بين الحسي والتجريدي: (حرقة الأشواق).
ولعل هذا الاستنتاج، يدل على عدم تقيد الشاعر بمعطيات العالم الحسي، فهو لا يلبث أن يتعالى عن هذا العالم بما أوتي من قوة خيالية مجنحة، معيدا خلقه وتشكيله وفق معطيات شعرية جديدة.
إنه عالم الأجواء الطبيعية الساحرة، التي ارتسمها الشاعر وفق أبعاد إنسانية، وجعلها آمنة، يمكن أن يتخفى بين أحضانها مع حبيبته، بعيدا عما يمكن أن يكدر صفو علاقتهما، التي تقوم على الحب الخالص، الذي أقام الشاعر منه كرمة للعشاق، وجعل له عصيرا يطفئ حرقة الشوق.
فهو عالم يتأسس على انزياحات تحققت من جهة على مستوى المحور الاستبدالي العمودي، إذ اختارالشاعر من قائمته الاستبدالية الألفاظ التي بدت له منزاحة عن المتداول والمألوف، ومتناغمة مع تجربته الشعرية، لذا ليس غريبا أن نجد لسكون الليل ثوبا تختبئ فيه الأحلام، و نجد عصير الحب يطفئ حرقة الشوق... وهذا الانزياح رافقه انزياح على مستوى المحور التأليفي، فالشاعر ألف بين العناصر اللغوية للصورة الشعرية تأليفا خاصا، فهو قدم وأخر حسب ما اقتضته طبيعة التصوير الشعري، وبنية التشكيلات الإيقاعية.
ولعل الطابع البلاغي الذي يكشف عنه هذا التأليف لا يتمثل في التعابير الاستعارية فحسب، بل يتمثل كذلك في الطابع الإنشائي الذي تمثل في إدراج أساليب: (الأمر: تعالي، اسمعي، والنداء: يا ابنة، والنهي: لاتخافي)، وهي أساليب أراد بها الشاعر إقناع مخاطبته واستثارتها.
بهذا وذاك تكون الصور قد أدت وظيفة جمالية، فهي قدمت المعنى في صورة تبتعد عن اللغة المألوفة، على مستوى الدلالة والتركيب، وباعتبار الشاعر يعبر عن حالته الوجدانية، وعما يستشعره من حب إزاء حبيبته، فإن وظيفة أخرى تنضاف إلى السابقة، وهي الوظيفة الانفعالية.
وحتى يعبر الشاعر عن حيوية حبه، وحيوية عالمه الشعري الذي يأوي إليه، ضمن قصيدته جملا فعلية عدة أتت مهيمنة على نظيرتها الاسمية التي بدت وصفية.
وإن كانت هاته الجمل وتلك تدل على عالم انبجس في الليل، فإن الشاعر لم يستسلم لسكونه، إذ جعل منه عالما سحريا وشعريا، ولقد بدا الشاعر منشدا إلى الزمن الحاضر، فالماضي لديه فعل انقضى، بينما المضارع فعل بصدد عيشه مع حبيبته التي يدعوها إليه، مستعملا تارة فعل الأمر وتارة أخرى النداء الدال على علو شأنها ومكانتها لديه.
وما يلفت النظر إزاء البنية الإيقاعية لهاته القصيدة، كونها جاءت منسجمة مع رقة الموضوع، فالشاعر يعتمد البحر الشعري الخليلي الرمل: (فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلن)، ويعطيه طواعية جديدة تدل على الحرية في الكتابة الشعرية، التي طالما دعا إليها ، فهذا الشاعر بعدما استقى من بحر الرمل التفعيلات وزعها وفق ما شاء، إلى درجة أنه جعل الشطر الثاني يقوم على تفعيلة واحدة، ألحق بها سببا خفيفا، بذا لم يتقيد الشاعر بالنظام المتوازي لتفعيلات بحر الرمل ولم يتقيد بضربه.
ولعل هذا البحر الشعري المعتمد بحرية يتناغم مع المعاني الرقيقة، التي يتغنى بها ، فتبعث النشوة والطرب، وهو من الأوزان التي أكثر منها الشعراء في العصر الحديث، دون أي يتقيدوا بحدوده، إذ أضافوا له تلوينات صوتية، منسجمة مع الذوق الموسيقي، على غرار ما فعل الشاعر في الشطر الثاني.
فهاته الحرية في التعامل مع البحر الشعري، تساوقها حرية التعامل مع الروي الذي جاء منوعا غير موحد على غرار القصائد التقليدية، بينما جاءت القافية مترادفة في عمومها، وهي كثيرا ما تأتي متجانسة الأصوات: (المسحور، الحور).
فهذا ما تدلنا عليه بنية التشكيلات الإيقاعية على المستوى الخارجي، أما على المستوى الداخلي، فإن التكرار يثير الانتباه، فمنه ما اتخذ شكل جناس الاشتقاق: (سكن الليل، وفي ثوب السكون)، ومنه ما كان تكرار تطابق: (وسعى البدر، وللبدر عيون)، ومنه تكرار توازن وتواز: ( لا تخافي/ التي تصدرت بيتين).
هذا بالإضافة إلى التجانسات الصوتية: (يروح، يبوح..)، والتوازيات اللغوية، كالتوازي التركيبي- الصرفي: (تكتم الأخبار، تحجب الأسرار/ يثنيه، يضنيه)، والتوازي الصوتي - الإيقاعي: ( الأخبار، الأسرار).
خاتمة: مما سبق نخلص إلى كون التجربة الشعرية التي دل عليها الشاعر في قصيدته: "أغنية الليل"، مستوحاة من الذات التي تفاعلت مع محيطها إلى درجة أنها شخصت عناصره، وتعالت به عن المألوف، إذ صاغت له من الصور الشعرية، ما يضفي عليه أبعادا جمالية.فهاته التجربة الذاتية تعبر عن طلاقة الشعر، الذي نظمه الشاعر على بحر الرمل دون أن يتقيد بصرامته الخليلية، كما نظمه على تشكيلات إيقاعية ، متناغمة مع التراكيب النحوية التي اعتمدت على ألفاظ شحنت بشحنة شعرية متجاوبة مع الذات، وما تحسه في وجودها الذي اختلقته وفق ما تشاء.
بهذا وذاك، وضعنا جبران خليل جبران إزاء تجربة من التجارب الشعرية، التي استطاعت أن تنزاح عن تجربة حركة إحياء النموذج، وأن تستقل بعالمها الشعري.
0 التعليقات :
إرسال تعليق