اللص والكلاب قراءة تركيبية الجزء الثاني
اللص والكلاب
قراءة تركيبية
الجزء الثاني
من خلال هذه المضامين يتبين أن القوى الفاعلة هي صانعة الحدث ،وأول هذه القوى الشخصيات والبداية كانت مع سعيد مهران
بطل الرواية ، ضحية مؤامرة الغدر والخيانة خرج من السجن ليثأر من الكلاب
،بدأ في تنفيذ ما عزم عليه من انتقام وثأر، محتميا مع كل واقعة بنور حتى
تهدأ العاصفة ويسترجع أنفاسه،ويتحرك من جديد مع جريمة ثانية ،إلا أن الفشل
كان يلاحقه في كل مرة ، فيفقد التركيز والقدرة على التحرك بحرية مما عجل
بنهايته .
ويعتبر عليش صبي سعيد بطل المؤامرة، أوقع بسعيد في السجن ليظفر بالمال ونبوية الزوجة الخائنة التي تواطأت مع عليش للتخلص من سعيد.أما رءوف
،صديق سعيد الذي زرع فيه مبادئ التمرد على المجتمع والطبقية وتنكر لها
ولصديقه، تحول إلى عامل معاكس ،حرض الرأي العام وشدد الخناق على سعيد
بمقالاته الصحفية المبالغة في تضخيم الحدث، ويصبح عامل موضوع عندما أصبح
مستهدفا في عملية الانتقام ليزداد قوة كعامل معاكس أحبط خطة سعيد وأزم
وضعيته.
وتتوزع باقي الشخصيات بين شخصيات معارضة كالمخبر الذي لعب دور الوسيط بين سعيد وعليش ويقدم الدعم والحماية القانونية لعليش،و سكان الحارة ويرى فيهم سعيد امتدادا للخيانة والغدر بقبولهم التعايش مع عليش وخاصة المعلم بياضة. أما الشخصيات المساعدة فنجد طرزان صاحب المقهى، يمد سعيد بمساعدات تعينه على متابعة مخططه الانتقامي،و نور
امرأة تمتهن الدعارة وتقدم الدعم والعون لسعيد إلى حد المخاطرة بحياتها
،فكانت عاملا مساعدا تمثل الخلاص الآمن لسعيد قبل أن تصبح عاملا معاكسا
بغيابها الذي عجل بنهاية سعيد ،كما نجد الشيخ على الجنيدي صديق والد
سعيد، ويمثل الجانب الروحي الغائب عن سعيد، فأصبح ملاذا لسعيد كلما ضاقت
به السبل ،وهناك شخصيات عارضة وضعتها الصدفة في طريق سعيد ولم تسلم من شره
كصاحب السيارة غنيمة عرضية مكن سعيد من انجاز خطته الانتقامية بكل سهولة،و
شعبان حسن ثم البواب ضحية تقديرات سعيد الخاطئة ،في حين يبقى رجال الشرطة
عاملا معاكسا ضيق الخناق على سعيد إلى حد القضاء عليه.
وكانت المواقع هي المجال الذي تستثمر فيه الشخصيات الحدث والبداية من ميدان القلعة ، الحي الذي كان يقطنه سعيد ، منه دبرت مؤامرة سجنه، وإليه عاد للانتقام،وهو مسرح أول جريمة يقترفها ،ويعتبر طريق الجبل مأوى سعيد يلجأ إليه كلما ضاقت به السبل وعز الأصحاب كما مكنه من التخفي بعيدا عن أعين الشرطة ،و بيت رءوف يعتبر شاهدا على تبدل القيم وأول نقطة يباشر منها سعيد انتقامه وهو أيضا مسرح الجريمة الثانية الفاشلة،وهناك مواقع مساعدة كالمقهى الذي يمثل السند والحماية الخلفية لسعيد، و بيت نور
عامل مساعد أيضا مكن سعيد من الشعور بالأمان، ومتابعة تطورات جريمته عن
بعد قبل أن يتحول إلى مصدر تهديد لسعيد عند غياب نور المفاجئ ، وتمثل المقبرة النهاية الحتمية لأخطاء سعيد الطائشة.
من هنا كانت الوقائع
كلها تتمركز حول أطوار عملية الانتقام التي باشرها سعيد بعد خروجه من
السجن ،حيث تكونت لديه معطيات مقنعة لتبرير عملياته الانتقامية ،والبداية
كانت مع صديقه رءوف الذي أحبط محاولته، ليشرع سعيد في مباشرة خطة الانتقام
بطريقة عملية ومدروسة،إلا أن الفشل كان حليفه مرة أخرى،ليعاود عملية
انتقامية جديدة صوبت نحو رءوف وكانت ناجحة على مستوى الإعداد وفشلت بفعل
التسرع والتهور. فضيق سعيد الخناق على نفسه حيث تمت محاصرته من كل الجوانب
والقضاء عليه دون أن يظفر بشيء مما كان يخطط له .
ففصول الرواية بكل تجلياتها تضعنا أمام وضع اجتماعي
منحرف يجمع بين الجريمة وفساد القيم ،مع ما توفره السلطة من حماية وتغطية
تزيد من قوة المفسدين الكبار ، إضافة إلى ما تكشف عنه الدعارة من مآسي
إنسانية كارثيه ، و تجارة السلاح التي تغذي عنصر الجريمة وما يتنج عنها من
ضحايا أبرياء لا علاقة لهم بالصراع.
وأمام هذا الغليان الاجتماعي لا يمكن إلا أن نجد بعدا نفسيا
يطبعه التوتر والتوجس كقاسم مشترك بين كل الشخصيات وإن اختلفت الأسباب
والدوافع ،وقد تطور إلى الغضب والحقد والرغبة في الانتقام في سادية واضحة
تغمر سعيد وهو يقبل على الانتقام ،أو رءوف وهو يتلذذ بمطاردة سعيد للتخلص
منه، لتكون النهاية مثخنة بالإحباط والندم ثم الموت،بعد مشوار طويل من
القلق والاضطراب والضياع.
ونجيب
محفوظ كان بارعا في نقل فصول وأطوار العملية الانتقامية التي كرس لها سعيد
كل جهوده ،حيث أخضع الرواية لبناء محكم يبدأ بالوضعية الأولية،ثم سيرورة
الحدث وتطوراته، وانتهاء بالوضعية النهائية التي تضعنا أمام نهاية الحدث
والنتيجة التي آل إليها سعيد مهران.
ويستند الكاتب في نقل تفاصيل رواية "اللص والكلاب" إلى الرؤية من الخلف
واستعمال ضمير الغائب والسارد المحايد الموضوعي الذي لا يشارك في القصة
كما في الرؤية من الداخل، بل يقف محايدا من الأحداث يصف ويسرد الوقائع بكل
موضوعية، فهو يملك معرفة مطلقة عن الشخصيات ويعرف كل شيء عن شخصياته
المرصودة داخل المتن الروائي خارجيا ونفسيا.
ومن
وظائف السارد في الرواية السرد والحكي، وهذه هي الوظيفة الأساسية للسارد،
إضافة إلى وظيفة التنسيق بين الشخصيات، ووظيفة الوصف من خلال تشخيص
الشخصيات ووصف الأمكنة والأشياء ، ووظيفة النقد التي تتجلى في نقد الواقع
وتشخيص عيوبه ومساوئه الكثيرة ولاسيما تفاوته الاجتماعي والطبقي.
وهذا ما جعل الوصف
ينصب على الأشخاص والأمكنة والأشياء والوسائل، وله وظائف جمالية ودلالية
وتوضيحية تفسيرية. ويقوم الوصف بتمثيل الموجود مسبقا ومحاكاته من أجل
الإيهام بوجوده الحقيقي والمرجعي (الإيهام بالواقعية). ويهتم الوصف في
الرواية الواقعية بتحديد المجال العام الذي يتحرك فيه الأبطال. ويعني هذا
أن الوصف يستخدم في تحديد الخطوط العريضة لديكور الرواية، ثم لإيضاح بعض
العناصر التي تتميز بشيء من الأهمية.
ومن
العناصر التي تم التركيز عليها وصفا وتشخيصا وتجسيدا تصوير الشخصيات
فيزيولوجيا واجتماعيا وأخلاقيا ونفسانيا، كوصف سناء التي أثارت أباها سعيد
مهران بوجودها الرائع؛ ويصف الكاتب رءوف علوان ساخرا من مبادئه الزائفة
وثورته الواهمة التي ذهب ضحيتها كثير من الأبرياء والفقراء ، ووصف عليش
سدرة و زوجته نبوية وخليلة سعيد نور في عدة مواضع من الرواية عبر مستويات
خارجية واجتماعية وأخلاقية ونفسية تكشف لنا انتهازية عليش وخيانة رءوف
علوان ومكر نبوية واستهتار نور، وصفاء الشيخ الجنيدي ونكران سناء لأبيها
الخارج من السجن .
وينقل
لنا الكاتب أمكنة متناقضة ، البعض منها يوحي بالغنى والثراء كڤيلا رءوف
علوان الغاصة بالأشياء الثمينة، والبعض الآخر يوحي بالفقر والفاقة والخصاص
كشقة نور.
و يلاحظ أن الكاتب لم يفصل كثيرا في وصف شخصياته وأماكنه وأشيائه ، بل اكتفى بفقرات موجزة ومقاطع موحية.
و يلاحظ أن الزمن السردي
في الرواية زمن صاعد خطي ينطلق من حاضر الخروج من السجن إلى مستقبل
الاستسلام والموت. بيد أن هذا الزمن ينحرف تارة إلى الماضي لاسترجاعه( فلاش
باك)، أو إلى المستقبل من أجل استشرافه. و يزاوج الكاتب على مستوى الإيقاع
بين السرعة والبطء،ويتجلى إيقاع السرعة في الحذف والتلخيص، أما إيقاع
البطء فيكمن في الوقفة الوصفية والمشاهد الدرامية.
وبهذا،
تتخذ الرواية طابعا سينمائيا حركيا ، لأن المتن الروائي كتب بطريقة
السيناريو القابل للتشخيص السينمائي والإخراج الفيلمي الدرامي. وفعلا، فقد
تم إخراج هذا الفيلم سينمائيا منذ سنوات مضت في مصر؛ نظرا لتوفر الرواية
على لقطات بصرية وحركية تستطيع جذب المتفرج.
وعلى مستوى الصياغة الأسلوبية وظف نجيب محفوظ في روايته عدة أساليب سردية لنقل الأحداث والتعبير عن مواقف الشخصيات. ولقد أكثر من السرد ليقترب من الواقع أكثر لمحاكاته وتسجيله وتشخيصه بطريقة تراجيدية. وفي نفس الوقت، يلتجئ إلى الحوار قصد معرفة تصورات الشخصيات وتناقض مواقفها الإيديولوجية. كما التجأ أيضاإلى المنولوج
للتعبير عن صراع الشخصيات وتمزقاتها الداخلية ذهنيا ونفسيا.ويحضر أسلوب
سردي آخر يسمى بالأسلوب غير المباشر الحر الذي يختلط فيه كلام السارد مع
كلام الشخصية وهو كثير بين ثنايا الرواية وعلى الرغم من كل هذه الأساليب،
فإن السرد يبقى هو المهيمن على غرار الروايات الواقعية والوجودية، كما
استعان الكاتب بالوصف أثناء تقديم الشخصيات والأمكنة والأشياء والوسائل وتحيين المشاهد الدرامية.
وتمتاز لغة نجيب محفوظ بكونها لغة واقعية
تصويرية تستند إلى تسجيل المرجع وتمويهه بلغة تتداخل فيها الفصحى والعامية
المصرية ليقترب أكثر من خصوبة الواقع العربي المصري. لذالك استعمل الكاتب
تعابير العامية المصرية وأساليبها وألفاظها وصيغها المسكوكة. كما استعمل
قواميس تدل على حقول دلالية مثل: حقل الأثاث، وحقل الطبيعة، وحقل
الدين والتصوف، وحقل الصحافة والإعلام، وحقل السلطة والجريمة، وحقل الوجود و
العبث، وحقل القيم، وحقل المجتمع، وحقل السياسة....
وعلى
الرغم من استخدام اللغة الطبيعية الواقعية المباشرة التي تنبني على
الخاصية التقريرية الجافة الخالية من كل محسن بلاغي وشاعري، إلا أن الكاتب
يوظف في بعض الأحيان تعابير قائمة على المشابهة ( التشبيه والاستعارة)،
والمجاورة (المجاز المرسل والكناية)، واستعمال الرموز (اللصوص والكلاب...)
لتشخيص الأحداث والمواقف وتجسيدها ذهنيا وجماليا.
وعلى
الرغم من كلاسيكية بناء الرواية، فقد استفاد نجيب محفوظ من تقنيات الرواية
الجديدة ومن آليات الرواية المنولوجية وتيار الوعي أثناء استعمال الحوار
الداخلي والارتداد إلى الخلف واستشراف المستقبل وتوظيف الأسلوب غير المباشر
الحر، كما استفاد كثيرا من الرواية الواقعية في تجسيد الواقعية الانتقادية
ذات الملامح الاجتماعية والسياسية عبث الحياة وقلق الإنسان في هذا الوجود
الذي تنحط فيه القيم الأصيلة وتعلو فيه القيم المنحطة.
0 التعليقات :
إرسال تعليق